فصل: تفسير الآية رقم (2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

انتقال إلى وعيد الكافرين على الكفر بحذافره، وذلك زائد على الوعيد المتقدم المتعلق بإنكارهم البعث مع عقوقهم الوالدين المسلمين‏.‏ فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏والذي قال لوالديه أفّ لكما‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏ الآيات‏.‏

والكلام مقول قول محذوف تقديره‏:‏ ويقال للذين كفروا يومَ يعرضون على النار ‏{‏أذهبتم طيباتكم‏}‏، ومناسبة ذكره هنا أنه تقرير لمعنى ‏{‏لا يظلمون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 19‏]‏، أي لا يظلمون في جزاء الآخرة مع أننا أنعمنا عليهم في الدنيا ولو شئنا لعجلنا لهم الجزاء على كفرهم من الحياة الدنيا، ولكن الله لم يحرمهم من النعمة في الحياة الدنيا فإن نعمة الكافر في الدنيا نعمة عند المحققين من المتكلمين‏.‏ وعن الأشعري‏:‏ أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا، وتُؤُوِّل بأنه خلاف لفظي، أي باعتبار أن عاقبتها سيئة‏.‏ ونعمة الله في الدنيا معاملة بفضل الرّبوبية وجزاؤهم على أعمالهم في الآخرة معاملة بِعدل الإلهية والحكمة‏.‏

وانتصب ‏{‏يوم يعرض‏}‏ على الظرفية لفعل القول المحذوف‏.‏ والعرض تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك يعرضون على ربهم‏}‏ في سورة هود ‏(‏18‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏النار يُعرضون عليها‏}‏ في سورة غافر ‏(‏46‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وتراهم يعرضون عليها‏}‏ في سورة الشورى ‏(‏45‏)‏‏.‏

وإذهاب الطيبات مستعار لمفارقتها كما أن إذهاب المرء إبعادٌ له عن مكان له‏.‏ والذهاب‏:‏ المبارحة‏.‏ والمعنى‏:‏ استوفيتم ما لكم من الطيبات بما حصل لكم من نعيم الدنيا ومتعتها فلم تبق لكم طيبات بعدها لأنكم لم تعملوا لنوال طيبات الآخرة، وهو إعذار لهم وتقرير لكونهم لا يظلمون فرتب عليه قوله‏:‏ فاليوم تجزون عذاب الهون‏}‏‏.‏

فالفاء فصيحة‏.‏ والتقدير‏:‏ إن كان كذلك فاليوم لم يبق لكم إلا جزاء سيّئ أعمالكم، وليست الفاء للتفريع ولا للتسبب‏.‏ وليس في الآية ما يقتضي منع المسلم من تناول الطيبات في الدنيا إذا توخّى حلالها وعمل بواجبه الديني فيما عدا ذلك وإن كان الزهد في الاعتناء بذلك أرفع درجة وهي درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه‏.‏

وروى الحسن عن الأحنف بن قيْس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول‏:‏ لأنا أعلم بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكباداً، وصلائق وصِنَاباً وكَراكر وأسْنِمَة ولكني رأيت الله نعى على قوم فقال‏:‏ ‏{‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها‏}‏‏.‏ وإنما أراد عمر بذلك الخشيةَ من أن يشغله ذلك عن واجبه من تدبير أمور الأمة فيقع في التفريط ويؤاخذ عليه‏.‏ وذكر ابن عطية‏:‏ أن عمر حين دخل الشام قدّم إليه خالد بن الوليد طعاماً طيباً‏.‏ فقال عمر‏:‏ هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير‏؟‏ فقال خالد‏:‏ لهم الجنة، فبكى عمر‏.‏ وقال‏:‏ لئن كان حظنا في المقام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيداً‏.‏

والهُون‏:‏ الهوان وهو الذلّ وإضافة ‏{‏عذاب‏}‏ إلى ‏{‏الهون‏}‏ مع إضافة الموصوف إلى الصفة‏.‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما كنتم تستكبرون‏}‏ للسببية وهي متعلقة بفعل ‏{‏تجزون‏}‏‏.‏

والمراد بالاستكبار، الاستكبار على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى قبول التوحيد‏.‏

والفسوق‏:‏ الخروج عن الدين وعن الحق، وقد يأخذ المسلم بحظ من هذين الجرمين فيكون له حظ من جزائهما الذي لقيه الكافرون، وذلك مبين في أحكام الدين‏.‏ والفسوق‏:‏ هنا الشرك‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أذهبتم‏}‏ بهمزة واحدة على أنه خبر مستعمل في التوبيخ‏.‏ وقرأه ابن كثير ‏{‏أأذهبتم‏}‏ بهمزتين على الاستفهام التوبيخي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

سيقت قصة هود وقومه مساق الموعظة للمشركين الذين كذبوا بالقرآن كما أخبر الله عنهم من أول هذه السورة في قوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 3‏]‏ مع ما أعقبت به من الحجج المتقدمة من قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم ما تدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏ الذي يقابله قول هود ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بِدْعا من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ الذي يقابله قوله‏:‏ ‏{‏وقد خَلَت النذُر من بين يديه ومن خلفه‏}‏، ذلك كله بالموعظة بحال هود مع قومه‏.‏ وسيقت أيضاً مساق الحجة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى عناد قومه بذكر مثال لحالهم مع رسولهم بحال عاد مع رسولهم‏.‏ ولها أيضاً موقع التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما تلقاه به قومه من العناد والبهتان لتكون موعظة وتسلية معا يأخذ كل منها ما يليق به‏.‏

ولا تجد كلمة أجمع للمعنيين مع كلمة ‏{‏اذكر‏}‏ لأنها تصلح لمعنى الذكر اللساني بأن يراد أن يذكر ذلك لقومه، ولمعنى الذُكر بالضم بأن يتذكر تلك الحالة في نفسه وإن كانت تقدمت له وأمثالها لأن في التذكر مسلاة وإسوة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏}‏ في سورة ص ‏(‏17‏)‏‏.‏ وكلا المعنيين ناظر إلى قوله آنفاً قل ما كنت بدعاً من الرسل‏}‏ فإنه إذا قال لهم ذلك تذكروا ما يعرفون من قصص الرسل مما قصّه عليهم القرآن من قبل وتذكر هو لا محالة أحوال رسل كثيرين ثم جاءت قصة هود مثالاً لذلك‏.‏ ومشركو مكة إذا تذكروا في حالهم وحال عاد وجدوا الحالين متماثلين فيجدر بهم أن يخافوا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم‏.‏

والاقتصار على ذكر عاد لأنهم أول الأمم العربية الذين جاءهم رسول بعد رسالة نوح العامة وقد كانت رسالة هود ورسالة صالح قبل رسالة إبراهيم عليهم السلام، وتأتي بعد ذكر قصتهم إشارة إجمالية إلى أمم أخرى من العرب كذبوا الرسل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 27‏]‏ الآية‏.‏

وأخو عاد هو هود وتقدمت ترجمته في سورة الأعراف‏.‏ وعبّر عنه هنا بوصفه دون اسمه العلَم لأن المراد بالذكر هنا ذكر التمثيل والموعظة لقريش بأنهم أمثال عاد في الإعراض عن دعوة رسول من أمتهم‏.‏

والأخ يراد به المشارك في نسب القبيلة، يقولون‏:‏ يا أخا بني فلان، ويا أخا العرب، وهو المراد هنا وقد يراد بها الملازم والمصاحب، يقال‏:‏ أخو الحرب وأخو عزمات‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة «أنت أخونا ومولانا» وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 160، 161‏]‏‏.‏

ولم يكن لوط من نسب قومه أهل سَدُوم‏.‏

و ‏{‏إذْ أنذر‏}‏ اسم للزمن الماضي، وهي هنا نصب على البدل من أخا عاد، أي اذكر زمن إنذاره قومه فهي بدل اشتمال‏.‏ وذكر الإنذار هنا دون الدعوة أو الارسال لمناسبة تمثيل حال قوم هود بحال قوم محمد صلى الله عليه وسلم فهو ناظر إلى قوله تعالى في أول السورة ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 3‏]‏‏.‏

والأحقاف‏:‏ جمع حِقْف بكسر فسكون، وهو الرمل العظيم المستطيل وكانت هذه البلاد المسماة بالأحقاف منازل عاد وكانت مشرفة على البحر بين عمان وعدن‏.‏ وفي منتهى الأحقاف أرض حضرموت، وتقدم ذكر عاد عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هودا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏65‏)‏‏.‏

وجملة وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏أنذر‏}‏ وجملة ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏ المفسرة بها‏.‏ وقد فسرت جملة ‏{‏أنذر‏}‏ بجملة ‏{‏لا تعبدوا إلا الله‏}‏ الخ‏.‏

و ‏(‏أن‏)‏ تفسيرية لأن ‏{‏أنذر‏}‏ فيه معنى القول دون حروفه‏.‏

ومعنى ‏{‏خلت النذر‏}‏ سبقت النذر أي نذر رسل آخرين‏.‏ والنذر‏:‏ جمع نِذارة بكسر النون‏.‏ و‏{‏من بين يديه ومن خلفه‏}‏ بمعنى قريباً من زمانه وبعيداً عنه، ف ‏{‏مِن بين يديه‏}‏ معناه القرب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏، أي قبل العذاب قريباً منه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقروناً بين ذلك كثيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏، وقال ‏{‏ورسلاً لم نقصصهم عليك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وأما الذي من خلفه فنوح فقد قال هود لقومه ‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏، وهذا مراعاة للحالة المقصود تمثيلها فهو ناظر إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بِدْعا من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ أي قد خلت من قبله رسل مثل ما خلت بتلك‏.‏

وجملة ‏{‏إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ تعليل للنهي في قوله‏:‏ ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏، أي إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم بسبب شرككم‏.‏ وعذاب اليوم العظيم يحتمل الوعيد بعذاب يوم القيامة وبعذاب يوم الاستئصال في الدنيا، وهو الذي عجّل لهم‏.‏ ووصف اليوم بالعظم باعتبار ما يحدث فيه من الأحداث العظيمة، فالوصف مجاز عقلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

جواب عن قوله‏:‏ ‏{‏أن لا تعبدوا إلا الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏، ولذلك جاء فعل ‏{‏قالوا‏}‏ مفصولاً على طريق المحاورة‏.‏

والاستفهام إنكار‏.‏ والمجيء مستعار للقصد بطلب أمر عظيم، شبه طروّ الدعوة بعد أن لم يكن يدعو بها بمجيء جاء لم يكن في ذلك المكان‏.‏

والأفك بفتح الهمزة‏:‏ الصرَّف، وأرادوا به معنى الترك، أي لنترك عبادة آلهتنا‏.‏ وهذا الإنكار تعريض بالتكذيب فلذلك فرع عليه ‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏ فصرحوا بتكذيبه بطريق المفهوم‏.‏

والمعنى‏:‏ ائتنا بالعذاب الذي تَعِدنا به، أي عذاب اليوم العظيم، وإنما صرَفوا مراد هود بالعذاب إلى خصوص عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث وبهذا يؤذن قوله بعده ‏{‏فلما رأوه عارضاً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وأرادوا‏:‏ ائتنا به الآن لأن المقام مقام تكذيب بأن عبادة آلهتهم تجر لهم العذاب‏.‏

و ‏{‏من الصادقين‏}‏ أبلغ في الوصف بالصدق من أن يقال‏:‏ إن كنت صادقاً، كما تقرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان من الكافرين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏34‏)‏، أي إن كنت في قولك هذا من الذين صدَقوا، أي فإن لم تأت به فما أنت بصادق فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

لما جعلوا قولهم‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏ فصْلا بينهم وبينه فيما أنذرهم من كون عبادة غير الله توجب عذاب يوم عظيم، كان الأمر في قولهم ‏{‏فأتنا‏}‏ مقتضياً الفور، أي طلب تعجيله ليدل على صدقه إذ الشأن أن لا يتأخر عن إظهار صدقه لهم‏.‏

وإسناد الإتيان بالعذاب إليه مجاز لأنه الواسطة في إتيان العذاب أن يدعو الله أن يعجّله، أو جعلوا العذاب في مكنته يأتي به متى أراد، تهكما به إذ قال لهم إنه مرسل من الله فجعلوا ذلك مقتضياً أن بينه وبين الله تعاوناً وتطاوعاً، أي فلا تتأخر عن الإتيان به‏.‏

وقد دل على هذا الاقتضاء قوله لهم حين نزول العذاب ‏{‏بل هو ما استعجلتم به‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ فلذلك كان جوابه أنْ قال‏:‏ ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏ أي علم وقت إتيان العذاب محفوظ عند الله لا يطلع عليه أحد، فالتعريف في ‏{‏العلم‏}‏ للاستغراق العرفي، أي علم المغيبات، أو التعريف عوض عن المضاف إليه، أي وقت العذاب‏.‏ صلى الله عليه وسلم وهذا الجواب يجري على جميع الاحتمالات في معنى قولهم‏:‏ ‏{‏فأتِنا بما تَعِدُنا‏}‏ لأن جميعها يقتضي أنه عالم بوقته‏.‏

والحصر هنا حقيقي كقوله‏:‏ ‏{‏لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ والمقصود من هذا الحصر شموله نفي العلم بوقت العذاب عن المتكلم رداً على قولهم‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏‏.‏

و ‏{‏عند‏}‏ هنا مجاز في الانفراد بالعلم، أي فالله هو العالم بالوقت الذي يرسل فيه العذاب لحكمة في تأخيره‏.‏

ومعنى ‏{‏وأبلغكم ما أرسلت به‏}‏ أنه بُعث مبلغاً أمر الله وإنذاره ولم يُبعث للإعلام بوقت حلول العذاب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الساعة أيان مرساها فِيمَ أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 42 45‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏أبلغكم ما أرسلت به‏}‏ جملة معترضة بين جملة ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏ وجملة ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏‏.‏

وموقع الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏ أنه عن قوله‏:‏ ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏، أي ولكنكم تجهلون صفات الله وحِكمة إرساله الرسل، فتحسبون أن الرسل وسائط لإنهاء اقتراح الخلق على الله أن يريهم العجائب ويساجلهم في الرغائب، فمناط الاستدراك هو معمول خبر ‏(‏لكنّ‏)‏ وهو ‏{‏قوماً تجهلون‏}‏، والتقدير‏:‏ ولكنكم قوم يَجهلون، فإدخال حرف الاستدراك على ضمير المتكلم عدول عن الظاهر لئلا يبادرهم بالتجهيل استنزالاً لطائرهم، فجعل جهلهم مظنوناً له لينظروا في صحة ما ظنه من عدمها‏.‏ وإنما زيد ‏{‏قوماً‏}‏ ولم يقتصر على ‏{‏تجهلون‏}‏ للدلالة على تمكن الجهالة منهم حتى صارت من مقوّمات قوميتهم وللدلالة على أنها عمت جميع القبيلة كما قال لوط لقومه ‏{‏أليس منكم رجل رشيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وأبلّغكم‏}‏ بتشديد اللام‏.‏ وقرأه أبو عمرو بتخفيف اللام‏.‏ يقال‏:‏ بلّغ الخبر بالتضعيف وأبلغه بالهمز، إذا جعله بالغاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

الفاء لتفريع بقية القصة على ما ذكر منها، أي فلما أراد الله إصابتهم بالعذاب ورأوهُ عارض قالوا‏:‏ ‏{‏هذا عارض‏}‏ إلى آخره، ففي الكلام تقدير يدل عليه السياق، ويسمى التفريع فيه فصيحة، وقد طوي ذكر ما حدث بين تكذيبهم هوداً وبين نزول العذاب بهم، وذكر في كتب تاريخ العرب أنهم أصابهم قحط شديد سنين، وأن هوداً فارقهم فخرج إلى مكة ومات بها، وقد قيل إنه دفن في الحِجر حول الكعبة، وتقدم في سورة الحجر‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏ يشير إلى أنهم كانوا في حاجة إلى المطر‏.‏ وورد في سورة هود ‏(‏52‏)‏ قول هود لهم‏:‏ ‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يُرسِل السماء عليكم مدراراً‏}‏ وقصتهم مبسوطة في تفسيرنا لسورة هود‏.‏

وضمير رأوه‏}‏ عائد إلى ‏{‏ما تعَدِنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏، وهو العذاب‏.‏ وأطلق على المرئي ضمير العذاب لأن المَرئِي سبب العذاب وهو ما حملته الريح‏.‏ و‏{‏عارضاً‏}‏ حال منه، والعارض‏:‏ السحاب الذي يعترض جو السماء أي رأوه كالعارض‏.‏ وليس المراد عارض المطر لأنه ليس كذلك وكيف قد أبطل قولهم‏:‏ ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به ريح‏}‏‏.‏ و‏{‏مستقبل أوديتهم‏}‏ نعت ل ‏{‏عارضاً‏}‏‏.‏

والاستقبال‏:‏ التوجه قبالة الشيء، أي سائراً نحو أوديتهم‏.‏

وأودية‏:‏ جمع وادٍ جمعاً نادراً مثل نادٍ وأندية‏.‏ ويطلق الواد على محلة القوم ونزلهم إطلاقاً أغلبياً لأنّ غالب منازلهم في السهول ومقارّ المياه‏.‏ وفي حديث سعد بن معاذ بمكة بعد الهجرة وما جرى بينه وبين أبي جهل من تحاور ورفع صوته على أبي جهل فقال له أمية‏:‏ لا ترفع صوتك على أبي الحكم سَيِّد أهل الوادي‏.‏ وجمع الأودية باعتبار كثرة منازلهم وانتشارها‏.‏

والعارض في قولهم‏:‏ ‏{‏هذا عارض ممطرنا‏}‏‏:‏ السحاب العظيم الذي يعرض في الأفق كالجبل، و‏{‏ممطرنا‏}‏ نعت ل ‏{‏عارض‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بل هو ما استعجلتم به‏}‏ مقول لقول محذوف، يجوز أن يكون من قول هود إن كان هود بين ظَهرانيهم ولم يكن خرج قبل ذلك إلى مكة أو هو من قول بعض رجالهم رأى مخائل الشرّ في ذلك السحاب‏.‏ قيل‏:‏ القائل هو بكر بن معاوية من قوم عاد‏.‏ قال لما رآه‏:‏ «إني لأَرى سحاباً مرمداً لا تدع من عاد أحداً» لعله تبين له الحق من إنذار هود حين رأى عارضاً غير مألوف ولم ينفعه ذلك بعد أن حلّ العذاب بهم، أو كان قد آمن من قبل فنجّاه الله من العذاب بخارق عادة‏.‏ وإنّما حذف فعل القول لتمثيل قائل القول كالحاضر وقت نزول هذه الآية، وقد سمع كلامهم وعلم غرورهم فنطق بهذا الكلام ترويعاً لهم‏.‏ وهذا من استحضار الحالة العجيبة كقول مالك بن الريب‏:‏

دعاني الهوى من أهل وُدِّي وجِيرتي *** بذي الشَّيِّطَيْن فالتفتُّ ورائيا

فتخيل داعياً يدعوه فالتفت، وهذا من التخيّل في الكلام البليغ‏.‏

وجعل العذاب مظروفاً في الريح مبالغة في التسبب لأن الظرفيّة أشدّ ملابسة بين الظرف والمظروف من ملابسة السبب والمسبب‏.‏ والتدمير‏:‏ الإهلاك، وقد تقدم‏.‏

و ‏{‏كل شيء‏}‏ مستعمل في كثرة الأشياء فإن ‏(‏كُلاَّ‏)‏ تأتي كثيراً في كلامهم بمعنى الكثرة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جاءتهم كل آية‏}‏ في سورة يونس ‏(‏97‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ تدمر ما من شأنه أن تُدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار‏.‏

وقوله‏:‏ بأمر ربها‏}‏ حال من ضمير ‏{‏تدمر‏}‏‏.‏ وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كلَّ شيء، أي تدميراً عجيباً بسبب أمر ربها، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية‏.‏ وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرّة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين‏.‏

‏{‏فأصبحوا‏}‏ أي صاروا، وأصبح هنا من أخوات صار‏.‏ وليس المراد‏:‏ أن تدميرهم كان ليلاً فإنهم دمّروا أياماً وليالي، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلاً‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏لا ترى‏}‏ لمن تتأتّى منه الرؤية حينئذٍ إتماماً لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة‏.‏

والمراد بالمساكن‏:‏ آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك نجزي القوم المجرمين‏}‏ أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله‏:‏ ‏{‏ولقد مكناهم فيما إن مكَّنَّاكم فيه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لا ترى‏}‏ بالمثناة الفوقية مبنياً للفاعل وبنصب ‏{‏مساكنهم‏}‏ وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنياً للمجهول وبرفع ‏{‏مساكنُهم‏}‏ وأجرى على الجمع صيغة الغائب المفرد لأن الجمع مستثنى ب ‏{‏إلاّ‏}‏ وهي فاصلة بينه وبين الفعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

هذا استخلاص لموعظة المشركين بمَثَل عاد، ليعلموا أن الذي قدَر على إهلاك عاد قادر على إهلاك مَن هم دونهم في القوة والعدد، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحسّ وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكيّة عن أولئك فليتهيّأوا لما سيحلّ بهم‏.‏ ولإفادة هذا الاستخلاص غُيّر أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في ‏{‏قالوا أجئتنا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 22‏]‏ والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم‏.‏ وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب‏.‏

والتمكين‏:‏ إعطاء المَكِنة ‏(‏بفتح الميم وكسر الكاف‏)‏ وهي القدرة والقوة‏.‏ يقال‏:‏ مكُن من كذا وتمكن منه، إذا قدر عليه‏.‏ ويقال‏:‏ مكَّنه في كذا، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى‏:‏ ‏{‏مكنّاهم في الأرض ما لم نمكن لهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏6‏)‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه، أي من كل ما يمكّن فيه الأقوام والأمم، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكَّنَّاهم في الأرض‏}‏ في أول الأنعام ‏(‏6‏)‏ فضمّ إليه ما هنا‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ من قوله فيما‏}‏ موصولة‏.‏ و‏{‏إن‏}‏ نافية، أي في الذي ما مَكَّناكم فيه‏.‏

ومعنى مكناكم فيه‏:‏ مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات، فلذلك حسن تعدية فعل ‏{‏مكناكم‏}‏ بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مُكنت منها عاد‏.‏ ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف ‏{‏إنْ‏}‏ النافية مع أنَّ النفي بها أقل استعمالا من النفي ب ‏(‏ما‏)‏ النافية قصداً هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق وهما ‏(‏ما‏)‏ الموصولة و‏(‏ما‏)‏ النافية وإن كان معناهما مختلفاً، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء عن الألف في ‏(‏مهما‏)‏، فإن أصلها‏:‏ ‏(‏ما ما‏)‏ مركبة من ‏(‏ما‏)‏ الظرفية و‏(‏ما‏)‏ الزائدة لإفادة الشرط مثل ‏(‏أينما‏)‏‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ ولقد أغَثَّ أبو الطيب في قوله‏:‏

لعمرك مَا مَا بَان منك لِضَاربٍ *** وأقول ولم يتعقب ابن جنّي ولا غيره ممّن شرح الديوان من قبل على المتنبي وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول خطام المجاشعي‏:‏

وَصَاليات كَكَمَا يُؤثفَيْنْ *** ولا يغتفر مثله للمولدين‏.‏

فأما إذا كانت ‏(‏ما‏)‏ نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيداً لفظياً، فالإتيان بحرف ‏(‏إنْ‏)‏ بعد ‏(‏ما‏)‏ أحرى كما في قول النابغة‏:‏

رماد ككحل العين ما إنْ أبينُه *** ونؤيٌ كجذم الحوض أثلم خاشع

وفائدة قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة‏}‏ أنهم لم ينقصهم شيء من شأنه أي يخلّ بإدراكهم الحق لولا العناد، وهذا تعريض بمشركي قريش، أي أنكم حرمتم أنفسكم الانتفاع بسمعكم وأبصاركم وعقولكم كما حُرموه، والحالة متحدة والسبب متّحد فيوشك أن يكون الجزاء كذلك‏.‏ وإفراد السمع دون الأبصار والأفئدة للوجه الذي تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏46‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أم مَن يملك السمع والأبصار‏}‏ في سورة يونس ‏(‏31‏)‏‏.‏

ومِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ زائدة للتنصيص على انتفاء الجنس فلذلك يكون ‏{‏شيء‏}‏ المجرور ب ‏{‏من‏}‏ الزائدة نائباً عن المفعول المطلق لأن المراد بشيء من الإغناء، وحق ‏{‏شيء‏}‏ النصب وإنما جُرّ بدخول حرف الجر الزائد‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف، أي مدة جحودهم وهو مستعمل في التعليل لاستواء مؤدى الظرف ومؤدى التعليل لأنه لما جعل الشيء من الإغناء معلقاً نفيُه بزمان جحدهم بآيات الله كما يستفاد من إضافة ‏{‏إذْ‏}‏ إلى الجملة بعدها، عُلم أن لذلك الزمان تأثيراً في نفي الإغناء‏.‏

وآيات الله دلائل إرادته من معجزات رسولهم ومن البراهين الدالة على صدق ما دعاهم إليه‏.‏ وقد انطبق مثالهم على حال المشركين فإنهم جحدوا بآيات الله وهي آيات القرآن لأنها جَمَعت حقيقة الآيات بالمعنيين‏.‏

وحاق بهم‏:‏ أحاط بهم ‏{‏وما كانوا به يستهزئون‏}‏ العذاب، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

أتبع ضرب المثل بحال عاد مع رسولهم بأن ذلك المثل ليس وحيداً في بابه فقد أهلك الله أقواماً آخرين من مجاوريهم تُماثل أحوالهم أحوال المشركين، وذكَّرهم بأن قراهم قريبة منهم يعرفها من يعرفونها ويسمع عنها الذين لم يروها، وهي قرى ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وسبَأ وقوم تبع، والجملة معطوفة على جملة ‏{‏واذكر أخا عاد‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏ الخ‏.‏ وكنِّي عن إهلاك الأقوام بإهلاك قراهم مبالغة في استئصالهم لأنه إذا أهلكت القرية لم يبق أحد من أهلها كما كنّى عنترة بشك الثياب عن شك الجسد في قوله‏:‏

فشككت بالرمح الأصم ثيابه *** ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثيابك فطهّر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وتصريف الآيات تنويعها باعتبار ما تدّل عليه من الغرض المقصود منها وهو الإقلاع عن الشرك وتكذيب الرسل، وأصل معنى التصريف التغيير والتبديل لأنه مشتق من الصرف وهو الإبعاد‏.‏ وكنّي به هنا عن التبيين والتوضيح لأن تعدد أنواع الأدلة يزيد المقصود وضوحاً‏.‏ ومعنى تنويع الآيات أنها تارة تكون بالحجة والمجادلة النظرية، وتارة بالتهديد على الفعل، وأخرى بالوعيد، ومرة بالتذكير بالنعم وشكرها‏.‏ وجملة ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ مستأنفة لإنشاء الترجّي وموقعها موقع المفعول لأجله، أي رجاء رجوعهم‏.‏

والرجوع هنا مجاز عن الإقلاع عمّا هم فيه من الشرك والعناد، والرجاء من الله تعالى يستعمل مجازاً في الطلب، أي توسعة لهم وإمهالاً ليتدبروا ويتّعظوا‏.‏ وهذا تعريض بمشركي أهل مكة فهم سواء في تكوين ضروب تصريف الآيات زيادة على ما صرف لهم من آيات إعجاز القرآن والكلام على ‏(‏لعل‏)‏ في كلام الله تقدم في أوائل البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

تفريع على ما تقدم من الموعظة بعذاب عاد المفصَّل، وبعذاب أهل القرى المُجمل، فرع عليه توبيخ موجه إلى آلهتهم إذ قعدوا عن نصرهم وتخليصهم قدرة الله عليهم، والمقصود توجيه التوبيخ إلى الأمم المهلكة على طريقة توجيه النهي ونحوه لغير المنهي ليجتنب المنهيُّ أسبابَ المنهيِّ عنه كقولهم لا أعرفنك تفعل كذا، ولا أرينَّك هنا‏.‏ والمقصود بهذا التوبيخ تخطئة الأمم الذين اتخذوا الأصنام للنِصرِ والدفع وذلك مستعمل تعريضاً بالسامعين المماثلين لهم في عبادة آلهة من دون الله استتماماً للموعظة والتوبيخخِ بطريق التنظير وقياس التمثيل، ولذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏بل ضلّوا عنهم‏}‏ لأن التوبيخ آل إلى معنى نفي النصر‏.‏

وحرف ‏{‏لولا‏}‏ إذا دخل على جملة فعلية كان أصله الدلالة على التحْضيض، أي تحْضيض فاعل الفعل الذي بعد ‏{‏لولا‏}‏ على تحصيل ذلك الفعل، فإذا كان الفاعل غير المخاطب بالكلام كانت ‏{‏لولا‏}‏ دالة على التوبيخ ونحو إذ لا طائل في تحضيض المخاطب على فعل غيره‏.‏

والإتيان بالموصول لما في الصلة من التنبيه على الخطإ والغلط في عبادتهم الأصنام فلم تغن عنهم شيئاً، كقول عبدة بن الطّبيب‏:‏

إنَّ الذين تُرَوْنَهُم إخوانكم *** يَشفِي غَليل صدورهم أن تُصْرَعوا

وعوملت الأصنام معاملة العقلاء بإطلاق جمع العقلاء عليهم جرياً على الغالب في استعمال العرب كما تقدم غير مرة‏.‏

و ‏{‏قُرباناً‏}‏ مصدر بوزن غُفران، منصوبٌ على المفعول لأجله حكاية لزعمهم المعروف المحكي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليُقربونا إلى الله زُلفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهذا المصدر معترض بين ‏{‏اتخذوا‏}‏ ومفعوله، و‏{‏من دون الله‏}‏ يتعلق ب ‏{‏اتخذوا‏}‏‏.‏ و‏{‏دون‏}‏ بمعنى المباعدة، أي متجاوزين الله في اتخاذ الأصنام آلهة وهو حكاية لحالهم لزيادة تشويهها وتشبيعها‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ بمعنى لكن إضراباً واستدراكاً بعد التوبيخ لأنه في معنى النفي، أي ما نصرهم الذين اتخذوهم آلهة ولا قَربوهم إلى الله ليدفع عنهم العذاب، بل ضلُّوا عنهم، أي بل غابوا عنهم وقت حلول العذاب بهم‏.‏

والضلال أصله‏:‏ عدم الاهتداء للطريق واستعير لعدم النفع بالحضور استعارة تهكمية، أي غابوا عنهم ولو حضروا لنصروهم، وهذا نظير التهكم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل ادعوا شركاءَكم فدَعوْهُم فلم يستجيبوا لهم‏}‏ في سورة القصص ‏(‏64‏)‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ وذلك إفكهم‏}‏ فهو فذلكة لجملة ‏{‏فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله‏}‏ الخ وقرينة على الاستعارة التهكمية في قوله‏:‏ ‏{‏ضلوا عنهم‏}‏‏.‏ والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة‏}‏ من زعم الأصنام آلهة وأنها تقربهم إلى الله، والإفك بكسر الهمزة‏.‏

والافتراء‏:‏ نوع من الكذب وهو ابتكار الأخبار الكاذبة ويرادف الاختلاق لأنه مشتق من فَرِي الجلد، فالافتراء الكذب الذي يقوله، فعطف ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏ على ‏{‏إفكهم‏}‏ عطف الأخص على الأعم، فإن زعمهم الأصنام شركاء لله كذب مروي من قبل فهو إفك‏.‏ وأما زعمهم أنها تقرِّبهم إلى الله فذلك افتراء اخترعوه‏.‏

وإقحام فعل ‏{‏كانوا‏}‏ للدلالة على أن افتراءهم راسخ فيهم‏.‏ ومجيء ‏{‏يفترون‏}‏ بصيغة المضارع للدلالة على أن افتراءهم متكرر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

هذا تأييد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقاً عند الثقلين ومعظَّماً في العالَمَيْن وذلك ما لم يحصل لرسول قبله‏.‏

والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر عَلِموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم‏.‏ ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏‏.‏

فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏واذكر أخا عاد‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏ عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا ‏{‏إذْ صرفنا‏}‏ بفعل يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏واذكر أخا عاد‏}‏ والتقدير‏:‏ واذكر إذ صرفنا إليك نفراً من الجن‏.‏ وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون‏.‏

وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لِهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو بدون علمه‏.‏ ففي «جامع الترمذي» عن ابن عباس قال‏:‏ «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخْلة، اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم، فقالوا‏:‏ إنا سمعنا قرآناً عجباً»‏.‏ وفي «الصحيح» عن ابن مسعود «افتقدْنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فَعل به اغتيل أو واستطيرَ فبتنا بشرِّ ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قِبَل حِراء فقال ‏"‏ أتاني دَاعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن ‏"‏

وأيًّا مَّا كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏130‏)‏‏.‏

والصرف‏:‏ البعث‏.‏ والنفر‏:‏ عدد من الناس دون العشرين‏.‏ وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله‏:‏ من الجن‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏يستمعون القرآن‏}‏ في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيداً لعاملها وهو ‏{‏صرفنا‏}‏ كان التقدير‏:‏ يستمعون منك إذا حضروا لديك فصار ذلك مؤديا مؤدَّى المفعول لأجله‏.‏

فالمعنى‏:‏ صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن‏.‏

وضمير ‏{‏حضروه‏}‏ عائد إلى القرآن، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية مجازية لأنهم إنما حضروا قارئ القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم و‏{‏أنصتوا‏}‏ أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماماً به لئلا يفوت منه شيء‏.‏ وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ «استنصت الناس»، أي قبل أن يبدأ في خطبته‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنْصِت والإمام يخطب فقد لغوت ‏"‏، أي قالوا كلُّهم‏:‏ أنصتوا، كل واحد يقولها للبقية حرصاً على الوعي فنطق بها جميعهم‏.‏

و ‏{‏قُضِي‏}‏ مِبني للنائب‏.‏ والضمير للقرآن بتقدير مضاف، أي قضيت قراءته، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تمّ مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن ف ‏(‏ولَّوا‏)‏، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب ‏{‏قومهم‏}‏ على طريقة المجاز، نزل منزلة الإنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن‏.‏

والمنذر‏:‏ المخبر بخبر مخيف‏.‏

ومعنى ‏{‏ولوا إلى قومهم منذرين‏}‏ رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن‏.‏ والتبشير لمن عمِل بما جاء به القرآن‏.‏ ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص‏.‏

وجملة ‏{‏قالوا يا قومنا‏}‏ إلى آخرها مبينة لقوله‏:‏ ‏{‏منذرين‏}‏‏.‏ وحكاية تخاطب الجن بهذا الكلام الذي هو من كلام عربي حكاية بالمعنى إذ لا يعرف أن للجن معرفة بكلام الإنس، وكذلك فعل ‏{‏قالوا‏}‏ مجاز عن الإفادة، أي أفادوا جنسهم بما فهموا منه بطرق الاستفادة عندهم معانيَ ما حكي بالقول في هذه الآية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وابتدأوا إفادتهم بأنهم سمعوا كتاباً تمهيداً للغرض من الموعظة بذكر الكتاب ووصفه ليستشرفَ المخاطبون لما بعد ذلك‏.‏

ووصْف الكتاب بأنه ‏{‏أنزل من بعد موسى‏}‏ دون‏:‏ أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن «التوراة» آخر كتاب من كتب الشرائع نزل قبل القرآن، وأما ما جاء بعده فكتب مكملة للتوراة ومبينة لها مثل «زبور داود» و«إنجيل عيسى»، فكأنه لم ينزل شيء جديد بعد «التوراة» فلما نَزل القرآن جاء بهدي مستقل غير مقصود منه بيان التوراة ولكنه مصدق للتوراة وهادٍ إلى أزيد مما هدت إليه «التوراة»‏.‏

و ‏{‏ما بين يديه‏}‏‏:‏ ما سبقه من الأديان الحق‏.‏ ومعنى ‏{‏يهدي إلى الحق‏}‏‏:‏ يهدي إلى الاعتقاد الحق ضد الباطل من التوحيد وما يجب لله تعالى من الصفات وما يستحيل وصفه به‏.‏

والمراد بالطريق المستقيم‏:‏ ما يسلك من الأعمال والمعاملة‏.‏ وما يترتب على ذلك من الجزاء، شبه ذلك بالطريق المستقيم الذي لا يضل سالكه عن القصد من سيره‏.‏ ويجوز أن يراد ب ‏{‏الحق‏}‏ ما يشمل الاعتقاد والأعمال الصالحة ويراد بالطريق المستقيم الدلائل الدالة على الحق وتزييف الباطل فإنها كالصراط المستقيم في إبلاغ متبعها إلى معرفة الحق‏.‏

وإعادتهم نداءَ قومهم للاهتمام بما بعد النداء وهو ‏{‏أجيبوا داعي الله‏}‏ إلى آخره لأنه المقصود من توجيه الخطاب إلى قومهم وليس المقصود إعلام قومهم بما لقوا من عجيب الحوادث وإنما كان ذلك توطئة لهذا، ولأن اختلاف الأغراض وتجدّد الغرض مما يقتضي إعادة مثل هذا النداء كما يعيد الخطيب قوله‏:‏ «أيها الناس» كما وقع في خطبة حجة الوداع‏.‏ واستعير ‏{‏أجيبوا‏}‏ لمعنى‏:‏ اعملوا وتقلدوا تشبيهاً للعمل بما في كلام المتكلم بإجابة نداء المنادي كما في الآية‏:‏ ‏{‏إلا أن دعوتُكم فاستَجَبْتُم لي‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏ أي إلا أن أمرتكم فأطعتموني لأن قومهم لم يدعهم داع إلى شيء، أي أطيعوا ما طلب منكم أن تعملوه‏.‏

وداعي الله يجوز أن يكون القرآن لأنه سبق في قولهم‏:‏ ‏{‏إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى‏}‏‏.‏ وأطلق على القرآن ‏{‏داعي الله‏}‏ مجازاً لأنه يشتمل على طلب الاهتداء بهدي الله، فشبه ذلك بدعاء إلى الله واشتق منه وصف للقرآن بأنه ‏{‏داعي الله‏}‏ على طريقة التّبعيّة وهي تابعة لاستعارة الإجابة لمعنى العمل‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏داعي الله‏}‏ محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه يدعو إلى الله بالقرآن‏.‏ وعطف ‏{‏وآمنوا به‏}‏ على ‏{‏أجيبوا داعي الله‏}‏ عطف خاص على عام‏.‏

وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى ‏{‏الله‏}‏، أي وآمنوا بالله، وهو المناسب لتناسق الضمائر مع ‏{‏يغفر لكم‏}‏ و‏{‏يُجرْكم من عذاب أليم‏}‏ أو عائد إلى داعي الله، أي آمنوا بما فيه أو آمنوا بما جاء به، وعلى الاحتمالين الأخيرين يقتضي أن هؤلاء الجن مأمورون بالإسلام‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ذنوبكم‏}‏ الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل ‏{‏أجيبوا‏}‏ باعتبار أنه مجاب بفعل ‏{‏يغفر‏}‏، ويجوز أن تكون تبعيضية، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازاً في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه‏.‏ ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة ‏{‏من‏}‏ في الإثبات كما تزاد في النفي‏.‏ وأما ‏{‏مِن‏}‏ التي في قوله‏:‏ ‏{‏ويُجِرْكُم من عذاب أليم‏}‏ فهي لتعدية فعل ‏{‏يجركم‏}‏ لأنه يقال‏:‏ أجاره من ظلم فلان، بمعنى منعه وأبعده‏.‏

وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكاً للمعاني وعلى أن ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك، وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أو إذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس‏.‏

وهؤلاء قد نبهوا إليها بصَرْفهم إلى استماع القرآن وهم قد نبَّهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏، وقال في خطاب الشيطان ‏{‏لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏، فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجنّ‏.‏ وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون‏.‏ واختلفوا في جزاء الجن على الإحسان فقال أبو حنيفة‏:‏ ليس للجن ثواب إلا أن يُجَاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك‏:‏ كما يجازَون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة‏.‏ وحكى الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين أبي حنيفة ومالك ولم أرَه لغيره‏.‏ وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالِم إذا مرّت بها الآيات يتعيّن عليه فهمها‏.‏

ومعنى ‏{‏فليس بمُعْجِزِ في الأرض‏}‏ أنه لا ينجو من عقاب الله على عدم إجابته داعيه، فمفعول ‏{‏معجز‏}‏ مقدر دلّ عليه المضاف إليه في قوله‏:‏ ‏{‏داعي الله‏}‏ أي فليس بمعجز الله، وقال في سورة الجن ‏(‏12‏)‏ ‏{‏أن لن نُعْجِز الله في الأرض ولن نُعْجِزه هرباً‏}‏ وهو نفي لأن يكون يعجز طالبه، أي ناجياً من قدرة الله عليه‏.‏ والكلام كناية عن المؤاخذة بالعقاب‏.‏

والمقصود من قوله‏:‏ في الأرض‏}‏ تعميم الجهات فجرى على أسلوب استعمال الكلام العربي وإلا فإن مكان الجن غير معيّن‏.‏ و‏{‏ليس له من دونه أولياء‏}‏، أي لا نَصير ينصره على الله ويحميه منه، فهو نفي أن يكون له سبيل إلى النجاة بالاستعصام بمكان لا تبلغ إليه قدرة الله، ولا بالاحتماء بمن يستطيع حمايته من عقاب الله‏.‏ وذكر هذا تعريض للمشركين‏.‏

واسم الإشارة في ‏{‏أولئك في ضلال مبين‏}‏ للتنبيه على أن مَن هذه حالهم جديرون بما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم لتسبب ما قبل اسم الإشارة فيه كما في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والظرفية المستفادة من ‏{‏في ضلال مبين‏}‏ مجازية لإفادة قوة تلبسهم بالضلال حتى كأنهم في وعاء هو الضلال‏.‏ والمبين‏:‏ الواضح، لأنه ضلال قامت الحجج والأدلة على أنه باطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

عود إلى الاستدلال على إمكان البعث فهو متصل بقوله‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أفَ لكما أتَعِدَانِني أن أُخرج وقد خلت القرون من قبلي إلى قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17، 18‏]‏ فهو انتقال من الموعظة بمصير أمثالهم من الأمم إلى الاستدلال على إبطال ضلالهم في شركهم وهو الضلال الذي جرّأهم على إحالة البعث، بعد أن أطيل في إبطال تعدد الآلهة وفي إبطال تكذيبهم بالقرآن وتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا عود على بدء فقد ابتدئت السورة بالاحتجاج على البعث بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 3‏]‏ الآية ويتصل بقوله‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أفَ لكما أتِعَدَانني أن أخرج إلى قوله‏:‏ أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏‏.‏

والواو عاطفة جملة الاستفهام، وهو استفهام إنكاري، والرؤية عِلمية‏.‏ واختير هذا الفعل من بين أفعال العلم هنا لأن هذا العلم عليه حجة بينة مشاهدة، وهي دلالة خلق السماوات والأرض من عدم، وذلك من شأنه أن يفرض بالعقل إلى أن الله كامل القدرة على ما هو دون ذلك من إحياء الأموات‏.‏

ووقعت ‏{‏أنّ‏}‏ مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي ‏{‏يروا‏}‏‏.‏ ودخلت الباء الزائدة على خبر ‏{‏أنّ‏}‏ وهو مثبت وموكَّد، وشأن الباء الزائدة أن تدخل على الخبر المنفي، لأن ‏{‏أن‏}‏ وقعت في خبر المنفي وهو ‏{‏أولم يروا‏}‏‏.‏

ووقع ‏{‏بلى‏}‏ جواباً عن الاستفهام الإنكاري‏.‏ ولا يريبك في هذا ما شاع على ألسنة المعربين أن الاستفهام الإنكاري في تأويل النفي، وهو هنا اتصل بفعل منفي ب ‏(‏لم‏)‏ فيصير نفي النفي إثباتاً، فكان الشأن أن يكون جوابه بحرف ‏(‏نعم‏)‏ دون ‏{‏بلى‏}‏، لأن كلام المعربين أرادوا به أنه في قوة منفي عند المستفهم به، ولم يريدوا أنه يعامل معاملة النفي في الأحكام‏.‏ وكون الشيء بمعنى شيء لا يقتضي أن يعطَى جميع أحكامه‏.‏

ومحل التعجيب هو خبر ‏{‏أنّ‏}‏ وأما ما قبله فالمشركون لا ينكرونه فلا تعجيب في شأنه‏.‏ ووقوع الباء في خبر ‏{‏أنّ‏}‏ وهو ‏{‏بقادر‏}‏ باعتبار أنه في حيّز النفي لأن العامل فيه وهو حرف ‏{‏أنّ‏}‏ وقع في موضع مفعولي فِعل ‏{‏يروا‏}‏ الذي هو منفي فسرى النفي للعامل ومعموله، فقرن بالباء لأجل ذلك، وفي «الكشاف» «قال الزجاج لو قلت‏:‏ ما ظننت أن زيداً بقائم جاز، كأنه قيل‏:‏ أليس الله بقادر» اه‏.‏ وقال أبو عبيدة والأخفش‏:‏ الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ يريدان أنها زائدة في الإثبات على وجه الندور‏.‏

وأما موقع الجواب بحرف ‏{‏بلى‏}‏ فهو جواب لمحذوف دل عليه التعجيب من ظنهم أن الله غيرُ قادر على أن يحيي الموتى، فإن ذلك يتضمن حكاية عنهم أن الله لا يحيي الموتى، فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ تعليماً للمسلمين وتلقيناً لما يجيبونهم به‏.‏

وحرف ‏{‏بلى‏}‏ لما كان جواباً كان قائماً مقام جملة تقديرها‏:‏ هو قادر على أن يحيي الموتى‏.‏

وجملة ‏{‏ولم يَعْيَ بخلقهن‏}‏ عطف على جملة ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لم يعييَ‏}‏ مضارع عَيِيَ من باب رضي، ومصدره العِيّ بكسر العين وهو العجز عن العمل أو عن الكلام، ومنه العيّ في الكلام، أي عسر الإبَانِة‏.‏ وتعديته بالباء هنا بلاغة ليفيد انتفاء عجزه عن صنعها وانتفاء عجزه في تدبير مقاديرها ومناسباتها، فكانت باء الملابسة صالحة لتعليق الخلق بالعي بمعنييه‏.‏

وكثير من أيمة اللغة يرون أن العِيّ يطلق على التعب وعن عجز الرأي وعجز الحيلة‏.‏ وعن الكسائي والأصمعي‏:‏ العِيُّ خاص بالعجز في الحيلة والرأي‏.‏ وأما الإعياء فهو التعب من المشي ونحوه، وفعله أعيا، وهذا ما درج عليه الراغب وصاحب «القاموس»‏.‏

وظاهر الأساس‏:‏ أن أعيا لا يكون إلا متعدياً، أي همزته همزة تعدية فهذا قول ثالث‏.‏

وزعم أبو حيان أن مثله مقصور على السماع‏.‏ قلت‏:‏ وهو راجع إلى تنازع العاملين‏.‏

وعلى هذا الرأي يكون قوله تعالى هنا ‏{‏ولم يَعْي‏}‏ دالاً على سَعة علمه تعالى بدقائق ما يقتضيه نظام السماوات والأرض ليوجدهما وافيين به‏.‏ وتكون دلالته على أنه قدير على إيجادهما بدلالة الفحوى أو يكون إيكال أمر قدرته على خلقهما إلى علم المخاطبين، لأنهم لم ينكروا ذلك، وإنما قصد تنبيههم إلى ما في نظام خلقهما من الدقائق والحِكم ومن جملتها لزوم الجزاء على عمل الصالحات والسيئات‏.‏ وعليه أيضاً تكون تعدية فعل ‏{‏يَعْيَ‏}‏ بالباء متعينة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏بقادر‏}‏ بالموحدة بصيغة اسم الفاعل‏.‏ وقرأه يعقوب ‏{‏يقدر‏}‏ بتحتية في أوله على أنه مضارع من القدرة، وتكون جملة ‏{‏يقدر‏}‏ في محل خبر ‏{‏أنَّ‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنه على كل شيء قدير‏}‏ تذييل لجملة ‏{‏بلى‏}‏ لأن هذه تفيد القدرة على خلق السماوات والأرض وإحياء الموتى وغير ذلك من الموجودات الخارجة عن السماوات والأرض‏.‏ وتأكيد الكلام بحرف ‏(‏أنَّ‏)‏ لرد إنكارهم أن يمكن إحياء الله الموتى، لأنهم لما أحالوا ذلك فقد أنكروا عموم قدرته تعالى على كل شيء‏.‏

ولهذه النكتة جيء في القدرة على إحياء الموتى بوصف ‏{‏قادر‏}‏، وفي القدرة على كل شيء بوصف ‏{‏قدير‏}‏ الذي هو أكثر دلالة على القدرة من وصف ‏{‏قادر‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

موقع هذا الكلام أن عرض المشركين على النار من آثار الجزاء الواقع بعد البعث، فلما ذكر في الآية التي قبلها الاستدلال على إمكان البعث أعقب بما يحصل لهم يوم البعث جمعاً بين الاستدلال والإنذار، وذكر من ذلك ما يقال لهم مما لا ممندوحة لهم عن الاعتراف بخطئهم جمعاً بين ما رُدّ به في الدنيا من قوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏ وما يُردون في علم أنفسهم يوم الجزاء بقولهم‏:‏ ‏{‏بلى وربنا‏}‏‏.‏ والجملة عطف على جملة ‏{‏أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏ الخ‏.‏ وأول الجملة المعطوفة قوله‏:‏ ‏{‏أليسَ هذا بالحق‏}‏ لأنه مقول فعل قول محذوف تقديره‏:‏ ويُقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار‏.‏

وتقديم الظرف على عامله للاهتمام بذكر ذلك اليوممِ لزيادة تقريره في الأذهان‏.‏

وذِكر ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار للإيماء بالموصول إلى علة بناء الخبر، أي يقال لهم ذلك لأنهم كفروا‏.‏ والإشارة إلى عذاب النار بدليل قوله بعده ‏{‏قال فذوقوا العذاب‏}‏‏.‏ والحق‏:‏ الثابت‏.‏

والاستفهام تقريري وتنديمٌ على ما كانوا يزعمون أن الجزاء باطل وكَذب، وقالوا ‏{‏وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 59‏]‏، وإنما أقسموا على كلامهم بقسم ‏{‏وربّنا‏}‏ قسماً مستعملاً في الندامة والتغليظ لأنفسهم وجعلوا المقسم به بعنوان الرب تَحَنُّناً وتخضُّعاً‏.‏ وفرع على إقرارهم ‏{‏فذوقوا العذاب‏}‏‏.‏ والذوق مجاز في الإحساس‏.‏ والأمر مستعمل في الإهانة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏تَكْفُرُونَ * فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ‏}‏

تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وإذا تُتْلَى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏، وما اتصل به من ضَرْب المَثل لهم بعاد‏.‏ فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم‏.‏ ويجوز أن تكون الفاء فصيحة‏.‏ والتقدير‏:‏ فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا‏.‏

وأولوا العزم‏:‏ أصحاب العزم، أي المتصفون به‏.‏ والعزم‏:‏ نية محققة على عمل أو قول دون تردد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكّل على الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 235‏]‏‏.‏ وقال سعد بن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه‏:‏

إذا هَمَّ ألقَى بين عينيه عزمه *** ونكَّب عن ذكر العواقب جانباً

والعزم المحمود في الدين‏:‏ العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة، وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 186‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبلُ فنسي ولم نجد له عزماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏‏.‏ وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف، وعلى هذا تكون ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الرسل‏}‏ تبعيضية‏.‏ وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ كل الرسل أولو عزم، وعليه تكون ‏{‏مِن‏}‏ بيانية‏.‏

وهذه الآية اقتضت أن محمداً صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه، فصبره مثيل لصبرهم، ومَن صَبَرَ صَبْرَهم كان منهم لا محالة‏.‏

وأعقبَ أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين، أي الاستعجال لهم بالعذاب، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلاً لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة‏.‏

ومفعول ‏{‏تستعجل‏}‏ محذوف دل عليه المقام، تقديره‏:‏ العذاب أو الهلاك‏.‏ واللام في ‏{‏لهم‏}‏ لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله، أي لا تستعجل لأجلهم، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير‏:‏ لا تستعجل لهلاكهم‏.‏ وجملة ‏{‏كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار‏}‏ تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله، قال مرة بن عداء الفقعسي، ولعله أخذ قولَه من هذه الآية‏:‏

كأنك لم تُسبق من الدّهر ليلةً *** إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

وهم عند حلوله منذ طول المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة‏.‏

و ‏{‏من نهار‏}‏ وصف الساعة، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئاً يشغله‏.‏ فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وفيه ساعة يُستجاب فيها الدعاء ‏"‏، وأشار بيده يقللها، والساعة جزء من الزمن‏.‏

‏{‏نَّهَارٍ‏}‏‏.‏

فذلكة لما تقدم بأنه بلاغ للناس مؤمِنهم وكافِرهم ليعلم كلٌّ حَظّه من ذلك، فقوله‏:‏ ‏{‏بلاغ‏}‏ خبر مبتدإ محذوف تقديره‏:‏ هذا بلاغ، على طريقة العنوان والطالع نحوَ ما يُكتب في أعلى الظهير‏:‏ «ظهير من أمير المؤمنين»، أو ما يكتب في أعلى الصكوك نحو‏:‏ «إيداع وصية»، أو ما يكتب في التآليف نحو ما في «الموطأ» «وقوت الصلاة»‏.‏ ومنه ما يكتب في أعالي المنشورات القضائية والتجارية كلمة‏:‏ «إعلان»‏.‏

وقد يظهر اسم الإشارة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا بلاغ للناس‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 52‏]‏، وقول سيبويه‏:‏ «هذا باب علم ما الكلم من العربية»، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 106‏]‏‏.‏

والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً على طريقة الفذلكة والتحصيل مثل جملة ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، ‏{‏تلك أمة قد خلت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 134‏]‏‏.‏

‏{‏بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم‏}‏‏.‏

فرع على جملة ‏{‏كأنهم يوم يرون ما يُوعدون‏}‏ إلى ‏{‏من نهار‏}‏، أي فلا يصيبُ العذاب إلا المشركين أمثالهم‏.‏ والاستفهام مستعمل في النفي، ولذلك صحّ الاستثناء منه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130‏]‏‏.‏

ومعنى التفريع أنه قد اتضح مما سمعت أنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون، وذلك من قوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنتُ بِدْعاً من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 12، 13‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 27‏]‏ الآية‏.‏

والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد، وما في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى‏}‏، وبعضه مجازي وهو سوء الحال، أي عذاب الآخرة‏:‏ وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين‏.‏

وتعريف ‏{‏القوم‏}‏ تعريف الجنس، وهو مفيد العموم، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل‏.‏

والتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏فهل يُهلَك‏}‏ على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لمّا يقَعْ على إهلاك الأمم الذين قبلهم‏.‏ ولك أن تجعل التعريف تعريف العهد، أي القوم المتحدث عنهم في قوله‏:‏ ‏{‏كأنهم يوم يرون ما يوعدون‏}‏ الآية، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك‏.‏

والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك‏.‏ وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏

سورة محمد

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏‏}‏

صُدّر التحريض على القتال بتوطئة لبيان غضب الله على الكافرين لكفرهم وصدهم الناس عن دين الله وتحقير أمرهم عند الله ليكون ذلك مثيراً في نفوس المسلمين حنقاً عليهم وكراهية فتثور فيهم همة الإقدام على قتال الكافرين، وعدم الاكتراث بما هم فيه من قوة، حين يعلمون الله يخذل المشركين وينصر المؤمنين، فهذا تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏فإذا لقيتم الذين كفروا‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وفي الابتداء بالموصول والصلة المتضمنة كُفر الذين كفروا ومناواتهم لدين الله تشويق لما يرد بعده من الحكم المناسب للصلة، وإيماء بالموصول وصلته إلى علة الحكم عليه بالخبر أي لأجل كفرهم وصدهم، وبراعة استهلال للغرض المقصود‏.‏

والكفُر‏:‏ الإشراك بالله كما هو مصطلح القرآن حيثما أطلق الكفر مجرداً عن قرينة إرادة غير المشركين‏.‏ وقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف للمشركين‏.‏ وهي‏:‏ الكفر، والصد عن سبيل الله، وضلال الأعمال الناشئ عن إضلال الله إياهم‏.‏

والصدّ عن سبيل‏:‏ هو صرف الناس عن متابعة دين الإسلام، وصرفُهم أنفسهم عن سماع دعوة الإسلام بطريق الأوْلى‏.‏ وأضيف ‏(‏السبيل‏)‏ إلى ‏{‏الله‏}‏ لأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏‏.‏ واستعير اسم السبيل للدين لأن الدين يوصل إلى رضى الله كما يوصل السبيل السائرَ فيه إلى بُغيته‏.‏

ومن الصد عن سبيل الله صدهم المسلمين عن المسجد الحرام قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 25‏]‏‏.‏ ومن الصد عن المسجد الحرام‏:‏ إخراجهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة، وصدهم عن العُمرة عام الحديبية‏.‏ ومن الصد عن سبيل الله‏:‏ إطعامهم الناس يوم بدر ليثبتوا معهم ويكثروا حولهم، فلذلك قيل‏:‏ إن الآية نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من سادة المشركين من قريش‏.‏ وهم‏:‏ أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبيٌّ بن خلَف وأمية بن خلَف ونُبَيْه بن الحجاج ومُنَبِّه بنُ الحجاج وأبو البَخْتَرِي بنُ هشام والحارث بن هشام وزَمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نَوفل وحَكيم بن حِزام وهذا الأخير أسلم من بعد وصار من خيرة الصحابة‏.‏ وعدّ منهم صفوان بن أمية وسهل بن عمرو ومِقْيَس الجُمحي والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب وهذان أسلما وحَسن إسلامهما وفي الثلاثة الآخَرين خلاف‏.‏ ومن الصد عن سبيل الله صدهم الناس عن سماع القرآن ‏{‏وقال الذين كفروا لا تَسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والإضلال‏:‏ الإبطال والإضاعة، وهو يرجع إلى الضلال‏.‏ وأصله الخطأ للطريق المسلوك للوصول إلى مكان يُراد وهو يستلزم المعاني الأخر‏.‏ وهذا اللفظ رشيق الموقع هنا لأنه الله أبطل أعمالهم التي تبدو حسنة، فلم يثبهم عليها من صلة رحم، وإطعام جائع، ونحوهما، ولأن من إضلال أعمالهم أن كان غالب أعمالهم عبثاً وسيئاً ولأن من إضلال أعمالهم أن الله خَيَّبَ سعيهم فلم يحصلوا منه على طائل فانهزموا يوم بدر وذهب إطعامُهم الجيْش باطلاً، وأفسد تدبيرهم وكيدهم للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يشفُوا غليلهم يوم أحد، ثم توالت انهزاماتهم في المواقع كلها قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏‏}‏

هذا مقابل فريق الذين كفروا وهو فريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإيراد الموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الخبر وعلته، أي لأجل إيمانهم الخ كفَّر عنهم سيئاتهم‏.‏

وقد جاء في مقابلة الأوصاف الثلاثة التي أثبتت للذين كفروا بثلاثة أوصاف ضدها للمسلمين وهي‏:‏ الإيمان مقابل الكفر، والإيمانُ بما نُزل على محمد صلى الله عليه وسلم مقابل الصد عن سبيل الله، وعملُ الصالحات مقابل بعض ما تضمنه ‏{‏أضل أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 1‏]‏، و‏{‏وكفّر عنهم سيئاتهم‏}‏ مقابل بعض آخر مما تضمنه ‏{‏أضلّ أعمالهم‏}‏، ‏{‏وأصلح بالهم‏}‏ مقابل بقية ما تضمنه ‏{‏أضل أعمالهم‏}‏‏.‏ وزيد في جانب المؤمنين التنويه بشأن القرآن بالجملة المعترضة قوله‏:‏ ‏{‏وهو الحق من ربهم‏}‏ وهو نظير لوصفه بسبيل الله في قوله‏:‏ ‏{‏وصدوا عن سبيل الله‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وعبر عن الجلالة هنا بوصف الربّ زيادة في التنويه بشأن المسلمين على نحو قوله‏:‏ ‏{‏وأن الكافرين لا مولى لهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 11‏]‏ فلذلك لم يقل‏:‏ وصدّوا عن سبيل ربهم‏.‏

وتكفير السيئات غفرانها لهم فإنهم لما عملوا الصالحات كَفَّر الله عنهم سيئاتهم التي اقترفوها قبل الإيمان، وكفر لهم الصغائر، وكفر عنهم بعض الكبائر بمقدار يعلمه إذا كانت قليلة في جانب أعمالهم الصالحات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏‏.‏

والبال‏:‏ يطلق على القلب، أي العقل وما يخطر للمرء من التفكير وهو أكثر إطلاقه ولعله حقيقة فيه، قال امرؤ القيس‏:‏

فعادي عداء بين ثور ونعجة *** وكان عداء الوحش مِنّي على بال

وقال‏:‏

عليه القَتامُ سيء الظن والبال *** ومنه قولهم‏:‏ ما بالك‏؟‏ أي ماذا ظننت حين فعلت كذا، وقولهم‏:‏ لا يبالي، كأنه مشتق منه، أي لا يخطر بباله، ومنه بيت العُقيلي في الحماسة‏:‏

ونبكي حين نقتلكم عليكم *** ونقتلكم كأنَّا لا نُبالي

أي لا نفكر‏.‏

وحكى الأزهري عن جماعة من العلماء، أي معنى لا أبالي‏:‏ لا أكره اه‏.‏ وأحسبهم أرادوا تفسير حاصل المعنى ولم يضبطوا تفسير معنى الكلمة‏.‏

ويطلق البال على الحال والقدر‏.‏ وفي الحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر» قال الوزير البطليوسي في شرح ديوان امرئ القيس‏:‏ قال أبو سعيد‏:‏ كنت أقول للمعري‏:‏ كيف أصبحت‏؟‏ فيقول‏:‏ بخير أصلح الله بَالك‏.‏ ولم يوفه صاحب الأساس حقه من البيان وأدمجه في مادة ‏(‏بلو‏)‏‏.‏ وإصلاح البال يجمع إصلاح الأمور كلها لأن تصرفات الإنسان تأتي على حسب رأيه، فالتوحيد أصل صلاح بال المؤمن، ومنه تنبعث القوى المقاومة للأخطاء والأوهام التي تلبس بها أهل الشرك، وحكاها عنهم القرآن في مواضع كثيرة والمعنى‏:‏ أقام أنظارهم وعقولهم فلا يفكرون إلا صالحاً ولا يتدبرون إلا ناجحاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءَامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم‏}‏

هذا تبيين للسبب الأصيل في إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين‏.‏ والإتيان باسم الإشارة لتمييز المشار إليه أكملَ تمييز تنويهاً به‏.‏ وقد ذُكرت هذه الإشارة أربع مرات في هذه الآيات المتتابعة للغرض الذي ذكرناه‏.‏

والإشارة إلى ما تقدم من الخبرين المتقدمين، وهما ‏{‏أضل أعمالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 1‏]‏ و‏{‏كفَّر عنهم سيئاتهمْ وأصلح بالهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 2‏]‏، مع اعتبار علتي الخبرين المستفادتين من اسمي الموصول والصلتين وما عطف على كلتيهما‏.‏

واسم الإشارة مبتدأ، وقوله‏:‏ ‏{‏بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل‏}‏ الخ خبره، والباء للسببيّة ومجرورها في موضع الخبر عن اسم الإشارة، أي ذلك كائن بسبب اتباع الكافرين الباطل واتباع المؤمنين الحق، ولما كان ذلك جامعاً للخبرين المتقدمين كان الخبر عنه متعلقاً بالخبرين وسبباً لهما‏.‏ وفي هذا محسن الجمع بعد التفريق ويسمونه كعكسه التفسيرَ لأن في الجمع تفسيرا للمعنى الذي تشترك فيه الأشياء المتفرقة تقدمَ أو تأخَّرَ‏.‏ وشاهده قول حسان من أسلوب هذه الآية‏:‏

قوم إذا حاربوا ضَرّوا عدوَّهم *** أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفَعوا

سَجية تلكَ فيهم غير مُحدثة *** إنَّ الخَلائق فاعَلمْ شرُّها البِدَع

قال في «الكشاف»‏:‏ وهذا الكلام يسميه علماء البيان التفسير، يريد أنه من المحسنات البديعية‏.‏ ونقل عن الزمخشري أنه أنشد لنفسه لمّا فسر لطلبته هذه الآية فقُيد عنه في الحواشي قوله‏:‏

به فُجع الفرسان فوق خيولهم *** كما فُجعت تحت الستور العواتق

تساقط من أيديهم البِيضُ حيرة *** وزُعزع عن أجيادهن المخانق

وفي هذه الآية محسِّن الطباق مرتين بين ‏{‏الذين كفروا‏}‏ و‏{‏الذين آمنوا‏}‏ وبين ‏{‏الحق‏}‏ و‏{‏الباطل‏}‏‏.‏ وفي بيتي الزمخشري محسّن الطباق مرة واحدة بين فوق وتحت‏.‏ واتباع الباطل واتباع الحق تمثيليتان لهيئتي العمل بما يأمر به أيمة الشرك أولياءهم وما يدعو إليه القرآن، أي عملوا بالباطل وعمل الآخرون بالحق‏.‏

ووصف ‏{‏الحق‏}‏ بأنه ‏{‏من ربهم‏}‏ تنويه به وتشريف لهم‏.‏

‏{‏رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ‏}‏‏.‏

تذييل لما قبله، أي مثل ذلك التبيين للحالين يبين الله الأحوال للناس بياناً واضحاً‏.‏

والمعنى‏:‏ قد بيّنا لكل فريق من الكافرين والمؤمنين حاله تفصيلاً وإجمالاً، وما تفضي إليه من استحقاق المعاملة بحيث لم يبق خفاء في كنه الحالين، ومثل ذلك البيان يمثل الله للناس أحوالهم كيلا تلتبس عليهم الأسباب والمسببات‏.‏

ومعنى ‏{‏يضرب‏}‏‏:‏ يلقي وهذا إلقاء تبيين بقرينة السياق، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يضرب مثلاً‏}‏ ما في سورة البقرة ‏(‏26‏)‏‏.‏

والأمثال‏:‏ جمع مثَل بالتحريك وهو الحال التي تمثل صاحبها، أي تشهره للناس وتعرفهم به فلا يلتبس بنظائره‏.‏ واللام للأجل، والمراد بالناس جميع الناس‏.‏ وضمير أمثالهم‏}‏ للناس‏.‏

والمعنى‏:‏ كهذا التبيين يبّين الله للناس أحوالهم فلا يبقوا في غفلة عن شؤون أنفسهم محجوبين عن تحقق كنههم بحِجَاب التعود لئلا يختلط الخبيث بالطيب، ولكي يكونوا على بصيرة في شؤونهم، وفي هذا إيماء إلى وجوب التوسم لتمييز المنافقين عن المسلمين حقاً، فإن من مقاصد السورة التحذير من المنافقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏أمثالهم * فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ‏}‏‏.‏

لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاق‏}‏‏.‏ وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يُثْخِن في الأرض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 67‏]‏ الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقرراً يومئذٍ، وتقدم في سورة الأنفال‏.‏

والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم‏.‏

والمقصود‏:‏ تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين‏.‏ وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التّعليل من قوله‏:‏ ‏{‏حتى تضع الحرب أوزارها‏}‏‏.‏

و ‏(‏إذ‏)‏ ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله‏:‏ ‏{‏فضَرْب الرقاب‏}‏‏.‏

واللقاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا لقِيتم الذين كفروا‏}‏‏:‏ المقابلة، وهو إطلاق شهير للقاء، يقال‏:‏ يوم اللقاء، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب، ويقال‏:‏ إن لقيت فلاناً لقيت منه أسداً، وقال النابغة‏:‏

تجنب بني حُنّ فإن لقاءهم *** كريهٌ وإن لم تلْق إلا بصائر

فليس المعنى‏:‏ إذا لقيتم الكافرين في الطريق، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل ‏{‏لقيتم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضّدتم شوكتهم، فآسروا منهم أسرى‏.‏

وضرب الرقاب‏:‏ كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض‏.‏

والضرب هنا بمعنى‏:‏ القطع بالسيف، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنّه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجِهَ عدوه وجهاً لوجه‏.‏ والمعنى‏:‏ فاقتلوهم سواء كان القتَل بضرب السيف، أو طعن الرّماح، أو رشق النبال، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان‏.‏

والذين كفروا‏:‏ هم المشركون لأنّ اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر، نحو‏:‏ الكافرين، والكفار، والذين كفروا، هو الشرك‏.‏ و‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية‏.‏ ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع‏.‏

والإثخان‏:‏ الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصُلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها‏.‏

وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل، وكلا المعنيين في هذه الآية، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المنّ والفداءِ غيرُ مقيّد‏.‏

وإذا فسّر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فأسروا حينئذٍ، أي أبقوا الأسرى، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر‏.‏ وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله‏:‏ ‏{‏حتى يُثخن في الأرض‏}‏‏.‏

وانتصب ‏{‏ضرب الرقاب‏}‏ على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فِعله ثم أضيف إلى مفعوله، والتقدير‏:‏ فاضربوا الرقاب ضرباً، فلما حذف الفعل اختصاراً قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية‏.‏ والشَدّ‏:‏ قوة الربط، وقوة الإمساك‏.‏

والوثاق بفتح الواو‏:‏ الشيء الذي يوثق به، ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به‏.‏ وهو هنا كناية عن الأسر لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير‏.‏ والمعنى‏:‏ فاقتلوهم، فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم‏.‏

وتعريف ‏{‏الرقاب‏}‏ و‏{‏الوثاق‏}‏ يجوز أن يكون للعهد الذهني، ويجوز أن يكون عوضاً عن المضاف إليه، أي فضربَ رقابِهم وشُدُّوا وثاقهم‏.‏

والمنُّ‏:‏ الإنعام‏.‏ والمراد به‏:‏ إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق منٌّ عليه إذ لم يُقتل، والفداء‏:‏ بكسر الفاء ممدوداً تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدّو‏.‏ وقدم المن على الفداء ترجيحاً له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بغضه‏.‏

وانتصب ‏{‏منّا‏}‏ و‏{‏فداء‏}‏ على المفعولية المطلقة بدلاً من عامليهما، والتقدير‏:‏ إما تمّنون وإما تُفدون‏.‏

وقوله ‏{‏بعْدُ‏}‏ أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء‏.‏ وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هوازن‏.‏ وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ، وهذا رأي جمهور أيمة الفقه وأهل النظر‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ عام في كل كافر، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حَربهم ويشمل من حارَب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار‏.‏ وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده، لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون، لأن أوقات القتال مبينة في سورة براءة‏.‏ ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية ‏{‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏67‏)‏‏.‏ واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحدُ قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي، ومِن السلف عبدُ الله بن عمر، وعطاءُ، وسعيدُ بن جبير‏:‏ أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء، وأمير الجيش مخيّر في ذلك‏.‏

ويشبه أن يكون أصحاب هذا القول يرون أن مورد الآية الإذنُ في المنّ أو الفداء فهي ناسخة أو مُنهية لحكم قوله تعالى‏:‏ ما كانَ لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله‏:‏ ‏{‏لمسَّكُم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏67، 68‏)‏‏.‏

وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى‏:‏ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة، وأوقات المحاربة، فلذلك لم يقل هؤلاء بحَظْر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء، ولم يذكر معهما القتل‏.‏ وقد ثبت في «الصحيح» ثبوتاً مستفيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل من أسرى بدر النضر بنَ الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية، وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة، وقتل بعد أحد أبا عزّة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر‏.‏ وأيضاً لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق، وهو الأصل في الأسرى، وهو يدخل في المنّ إذا اعتبر المن شاملاً لترك القتل، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع‏.‏ وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك‏:‏ أنَّ المنّ من العتق‏.‏

وقال الحسن وعطاء‏:‏ التخيير بين المنّ والفداء فقط دون قتل الأسير، فقتل الأسير يكون محظوراً‏.‏ وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب إليه الحسن وعطاء‏.‏ وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي وابن جريج، ورواه العَوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة‏:‏ لا بأس أن يُفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين‏.‏ وروى الجصّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف‏.‏

والغاية المستفادة من ‏{‏حتى‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏حتى تضع الحرب أوزارها‏}‏ للتعليل لا للتقييد، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها، أي ليكفّ المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال‏.‏ والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهِن العدوَّ فيتركوا حربكم، فلا مفهوم لهذه الغاية، فالتعليل متصل بقوله‏:‏ ‏{‏فضرب الرقاب‏}‏ وما بينهما اعتراض‏.‏ والتقدير‏:‏ فضرب الرقاب، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها، فيكون وارداً مورد التعليم والموعظة، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء‏.‏

والأوزار‏:‏ الأثقال، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمّال أو المسافر أثقاله، وهذا من مبتكرات القرآن‏.‏ وأخذ منه عبد ربه السُلمى، أو سُليم الحنفي قوله‏:‏

فألقت عصاها واستقرّ بها النوَى *** كما قرّ عينا بالإياب المسافر

فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره‏.‏

‏{‏أَوْزَارَهَا ذلك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ‏}‏‏.‏

أعيد اسم الإشارة بعد قوله آنفاً‏:‏ ‏{‏ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 3‏]‏ للنكتة التي تقدمت هنالك، وهو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف‏.‏ وتقدير المحذوف‏:‏ الأمر ذلك، والمشار إليه ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏فضرب الرقاب‏}‏ إلى هنا، ويفيد اسم الإشارة تقرير الحكم ورسوخه في النفوس‏.‏

والجملة من اسم الإشارة والمحذوف معترضة و‏{‏لو يشاء الله لانتصر منهم‏}‏ في موضع الحال من الضمير المرفوع المقدر في المصدر من قوله‏:‏ ‏{‏فضَرْبَ الرقاب‏}‏، أي أمرتم بضرب رقابهم، والحال أن الله لو شاء لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم، ولكن الله ناط المسببات بأسبابها المعتادة وهي أن يبلو بعضكم ببعض‏.‏

وتعدية ‏(‏انتصر‏)‏ بحرف ‏(‏من‏)‏ مع أن حقه أن يعدّى بحرف ‏(‏على‏)‏ لتضمينه معنى‏:‏ انتقم‏.‏

والاستدراك راجع إلى ما في معنى المشيئة من احتمال أن يكون الله ترك الانتقام منهم لسبب غير ما بعدَ الاستدراك‏.‏

والبَلْوْ حقيقته‏:‏ الاختبار والتجربة، وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار، وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس‏.‏

هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله‏:‏ ‏{‏فضرب الرقاببِبَعْضٍ والذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أعمالهم * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ * ياأيها الذين ءامنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإما فداء‏}‏، فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذُكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم‏.‏

وجملة ‏{‏والذين قاتلوا في سبيل الله‏}‏ الخ عطف على جملة ‏{‏فإذا لَقِيتُمُ الذين كفروا فضرب الرقاب‏}‏ الآية فإنه لما أمرهم بقتال المشركين أعقب الأمر بوعد الجزاء على فعله‏.‏

وذكر ‏{‏الذين قاتلوا في سبيل الله‏}‏ إظهار في مقام الإضمار إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فلن يُضل الله أعمالكم، وهكذا بأسلوب الخطاب، فعدل عن مقتضى الظاهر من الإضمار إلى الإظهار ليكون في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إفادة تقوّي الخبر، وليكون ذريعة إلى الإتيان بالموصول للتنويه بصلته، وللإيماء إلى وجه بناء الخبر على الصلة بأن تلك الصلة هي علة ما ورد بعدها من الخبر‏.‏

فجملة ‏{‏فلن يضل أعمالهم‏}‏ خبر عن الموصول، وقرنت بالفاء لإفادة السببية في ترتب ما بعد الفاء على صلة الموصول لأن الموصول كثيراً ما يشرب معنى الشرط فيقرن خبره بالفاء، وبذلك تكون صيغة الماضي في فعل ‏{‏قاتلوا‏}‏ منصرفة إلى الاستقبال لأن ذلك مقتضى الشرط‏.‏ وجملة ‏{‏سيهديهم‏}‏ وما عطف عليها بيان لجملة ‏{‏فلن يضل أعمالهم‏}‏‏.‏ وتقدم الكلام آنفاً على معنى إضلال الأعمال وإصلاح البال‏.‏

ومعنى ‏{‏عَرَّفها لهم‏}‏ أنه وصفها لهم في الدنيا فهم يعرفونها بصفاتها، فالجملة حال من الجنة، أو المعنى هداهم إلى طريقها في الآخرة فلا يترددون في أنهم داخلونها، وذلك من تعجيل الفرح بها‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏عرفها‏}‏ جعل فيها عرْفاً، أي ريحاً طيباً، والتطييب من تمام حسن الضيافة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏قاتلوا‏}‏ بصيغة المفاعلة، فهو وعد للمجاهدين أحيائهم وأمواتهم‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحفص عن عاصم ‏{‏قُتِلوا‏}‏ بالبناء للنائب، فعلى هذه القراءة يكون مضمون الآية جزاء الشهداء فهدايتهم وإصلاح بالهم كائنان في الآخرة‏.‏